التاريخ : 2025-12-08

الدكتور ليث عبدالله القهيوي

أقدام النشامى التي هزت شباك الفوز في مباريات كأس العرب، لم تصنع مجرد فوز رياضي وتأهل مستحق إلى الدور التالي؛ بل قدّمت للأردنيين إحساسًا بلحظات نادرة يشعرون فيها أن شيئاً ما يعمل كما يجب، وأن الجهد الجماعي المنظم يمكن أن يتحول إلى إنجاز يرفع الرأس في إقليم مزدحم بالتحديات والمنافسين لكن المشجع نفسه، الذي يرفع صوته فرحًا في المدرجات، يعود في اليوم التالي ليواجه بأسئلة الماء والعمل والدين وغلاء المعيشة، فيرى أن ما يجري خارج الملعب أقل كفاءةً مما شاهده داخله.

الأردن، وهو ثاني أكثر دول العالم شحًا بالمياه، لا يتجاوز نصيب الفرد فيه مئة متر مكعب سنويًا أقل بكثير من خط الندرة المطلقة في وقت تشير فيه المؤسسات الدولية إلى أن الضغوط الديموغرافية وتغير المناخ يدفعان الأزمة نحو مستوى يهدد التنمية والاستقرار. وعلى الضفة الاقتصادية، بقيت البطالة فوق 21% عام 2024، فيما يقترب الدين العام من 90% من الناتج المحلي وفق تقديرات صندوق النقد، بعد سنوات من الاستدانة لسد العجز دون إحداث التحوّل المطلوب.

هذه الأرقام ليست قدراً، بل حصيلة مسار طويل من القرارات؛ بعضها كان اضطرارياً في مواجهة صدمات خارجية، وبعضها كان مكلفاً لأنه تأخر أو افتقر لتوزيع عادل للأعباء، فصنع الأزمة بدل أن يطفئها ، وهنا تتسع فجوة الثقة بين المواطن وصانعي القرار حين لا يرون أثرًا مباشرًا وملموسًا لخطط الإصلاح في حياتهم اليومية. 

في قلب هذا المشهد، جاءت مبادرات جلالة الملك عبدالله الثاني خلال السنوات الأخيرة لتعيد تعريف (القرار) في ذهن الدولة والمجتمع، من كونه مجرد استجابة عاجلة إلى كونه مساراً استراتيجياً متكاملاً استراتيجيًا لا رد فعل سريعًا. تشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية عام 2021، بتكليف واضح بالوصول إلى (حياة حزبية وبرلمان برامجي)، كان نقطة تحول؛ فمخرجاتها في قوانين الانتخاب والأحزاب والتعديلات الدستورية خفضت سن الترشح، وربطت تأسيس الأحزاب ونِسَب تمويلها بحضور الشباب والنساء، وفتحت الطريق تدريجياً أمام برلمانات تتشكل من كتل سياسية برامجية لا من أفراد متفرقين ، وتكمن أهمية هذا التحول أنه يؤسس لبيئة سياسية تستوعب المشاركة الشعبية وتستند إلى العمل البرامجي لا الشخصي، ما يحول القرار من امتداد للأزمة إلى أداة بناء مستقبل.

هذا التحديث السياسي، إذا وصل إلى مداه، يمكن أن ينقل صناعة القرار من غرف ضيقة إلى فضاء أوسع من المشاركة والمساءلة. 

بالتوازي، أطلقت (رؤية التحديث الاقتصادي 2023–2033)، التي تستهدف مضاعفة حجم الاقتصاد ، وخلق مليون فرصة عمل جديدة، ورفع النمو إلى قرابة 5.6 في المئة، من خلال ثمانية محركات للنمو وأكثر من 360 مبادرة تغطي 35 قطاعاً، بكلفة استثمارية تقدَّر بنحو 41 مليار دينار.

وإلى جانب ذلك، تمت صياغة (خارطة تحديث القطاع العام) لعشر سنوات حتى 2033، بثلاث مراحل و206 مبادرات لتحسين الحوكمة والخدمات والرقمنة، في محاولة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والجهاز الإداري. التجارب الدولية تؤكد أن أي إصلاح اقتصادي بلا تحديث إداري يبقى وثيقة طموحة بلا قوة تنفيذية، وهو ما يجعل تنفيذ الخطط بشفافية ومساءلة وعدالة في توزيع العوائد أمرًا جوهريًا.

هذا المسار الاستراتيجي لا يقتصر على الاقتصاد والسياسة فقط، بل يمتد إلى البعد الاجتماعي والرقمي، حيث يتقدم ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني في واجهة مشهد مختلف: جيل شاب، رقمـي، يبحث عن فرص لا عن شعارات. من خلال مؤسسة ولي العهد التي انخرط عبر برامجها أكثر من مليوني شاب وشابة وقدمت ملايين الفرص التدريبية والتطوعية، إضافة إلى مبادرات مثل (واحد مليون مبرمج أردني)،         و(تك ووركس) كمختبرات للتصنيع الرقمي والابتكار، تُترجم رؤية واضحة لربط الشباب باقتصاد المستقبل لا بوظائف الأمس.

وفي السنوات الأخيرة، برز مسار الأمن السيبراني والتحول الرقمي كأولوية تحت رعاية ولي العهد، من مراجعة الإستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني 2025–2028، إلى رعاية مؤتمرات دولية كبرى في هذا المجال، وإطلاق شراكات تقنية مع دول مثل بريطانيا، في رسالة مفادها أن حماية الفضاء الرقمي شرط لجذب الاستثمار وبناء اقتصاد معرفي آمن مستدام.

استشراف المستقبل هنا يعني اختبار قدرة هذه المسارات الثلاثة : السياسي والاقتصادي والإداري، ومعها المبادرات الشبابية والرقمية على تغيير نوعية القرارات لا ديباجتها فقط. إن بقيت الرؤية الاقتصادية حبيسة الوثائق ، واستمر التحديث السياسي على الورق أكثر منه في صناديق الاقتراع والحياة الحزبية، سيظل شعارًا أكثر منه ممارسة ويظل المواطن يرى في القرارات امتداداً للأزمة لا جسراً إلى ما بعدها. أما إذا جرى تنفيذ هذه الخطط بشفافية، وتوزيع عادل لعوائد النمو، ومساحة أوسع لمشاركة الشباب والنساء في القرار، فإن القرارات ذاتها يمكن أن تتحول إلى (أقدام) جديدة تسير بالبلد نحو مخرج آمن من عنق الزجاجة.

بين أقدام اللاعبين التي تصنع الفرح في المدرج، وأقدام الشباب التي تبحث عن فرصة على أبواب سوق العمل أو في فضاءات الاقتصاد الرقمي، تقف لحظة حاسمة في تاريخ الأردن. المعادلة الاستراتيجية بسيطة ومعقدة في آن واحد: كلما اقتربت القرارات الكبرى من نبض الناس، ومن رهانات التحديث الجاد في السياسة والاقتصاد والمجتمع، قل احتمال أن تصنع أزمة، وزادت فرص أن تتحول إلى منصة لفرحٍ مستدام، لا فرح صافرة نهاية مباراة فقط ، فالفرح الحقيقي ليس لحظة رياضية فقط، بل قدرة وطن بأكمله على تحويل القرارات إلى خطوات تمضي به نحو مستقبل آمن وعادل.